(لبنان ينتظره صيف ساخن)، لم يكن مساعد وزيرة الخارجية الأميركية ديفيد وولش في حاجة لأن يضيف أو يزيد على هذه الكلمات الأربع، حتى يفهم أتباعه تكليفهم والمطلوب منهم، وليتسابقوا لإظهار مدى امتثالهم لتعليمات سيدهم وولي أمرهم، ولا يهم هنا أن تحاك المؤامرات وتفتعل الفتن وتعمّ الفوضى، بل لا يهم أصلاً أن يضيع لبنان كله، فالأهم هو أن يرضى بوش، حتى لو تمت التضحية بالبلد قرباناً تحت قدميه. لذلك ليس من باب المصادفة، ولا من باب التسلية وتمضية الوقت، وليس حباً بلبنان، ولا خوفاً عليه، تلك الحمى الأمنية التي أصابت البعض، فراحوا عشية اجتماع مجلس الأمن، يشيعون أكاذيب تصور المقاومة اللبنانية كوحش كاسر يضمر الشر للجميع، بخلاف مسؤوليته عن كل ما أخل ويخل وسيخل بالأمن في البلاد.
فصول الحمى بدأت في الثامن والعشرين من نيسان الماضي، بمسرحية سمجة عن اختطاف ممثل الحزب الاشتراكي الفرنسي كريم باكزاد في ضاحية بيروت الجنوبية، وبعد ذلك بيومين خرج علينا المدعو وليد جنبلاط ليتحدث عن تثبيت الحزب لكاميرا لمراقبة المدرج رقم 17 لمطار بيروت الدولي بهدف تنفيذ عملية اغتيال احدى الشخصيات التي تستخدم هذا المدرج الخاص، ثم كانت ثالثة الأثافي في حديث جنبلاط عن امتلاك حزب اللـه لشبكة اتصالات هاتفية عسكرية مغلقة.
تحول توقيف باكزاد لعدة دقائق لسؤاله عن هويته إلى اختطاف، وأصبحت تلك هي القصة التي يجب أن تشغل الناس وتبعدهم تماما عن السؤال عن سبب تجواله مع أحد مخبري وليد جنبلاط في قلب ضاحية بيروت، وقيامهما بشكل مريب بتصوير منازل بعض مسؤولي حزب الله... وأصبح وجود كاميرا، مداها لا يزيد على عشرة أمتار، جريمة إرهابية يجب أن ترعب الناس وترهبهم وتشعرهم بأنهم على شفا الهلاك، حتى لا ينتبه أحدهم إلى أنها تبعد عن المطار بمسافة تزيد أضعاف المرات على قدرتها التصويرية، وأنها مخصصة لتأمين مستودعات شركة مقاولات كبيرة ضد السرقة... كذلك أصبح الحديث عن امتلاك المقاومة لشبكة اتصالات هاتفية عسكرية أخطر من وجود إسرائيل، وأهم من وظيفة هذه الشبكة إن وجدت، وأصبح لزاماً على الجميع أن يمنحوا أسماعهم وأبصارهم للاتهامات الموجهة إلى حزب الله، ولا يهم هنا أن يقتنعوا بها أو أن يسخروا منها، فالأهم هو أن يتم الاستحواذ عليهم ومنعهم من التفكير ولو للحظة فيما كانت المصادر العسكرية والسياسية والإعلامية الصهيونية تكشف عنه في نفس التوقيت، من إلغاء الجيش الإسرائيلي في اللحظة الأخيرة لعملية تصفية هدف (كبير جدا) في الضاحية الجنوبية، كان من المقرر أن تنفذ مساء الإثنين 28 أبريل /نيسان/، وهنا يكمن السؤال الكبير: لماذا يحرص جنبلاط على التعمية على هذا الخبر، وما الذي يضيره من تركيز الناس عليه والاطلاع على تفاصيله؟
وللحصول على إجابة لا تقبل الشك نبدأ بمراجعة التواريخ ومراجعة ما صدر عن الصهاينة، أما التواريخ فتبين أن مسرحية باكزاد كانت في نفس اليوم المقرر لعملية الصهاينة، وهناك احتمال يتردد بقوة حول أن كشف المقاومة لوجود باكزاد الذي دخل إلى الضاحية في مهمة أمنية، كان أحد المفاجآت التي دفعت الصهاينة إلى إلغاء عمليتهم في اللحظات الأخيرة، وأن توقيف المقاومة لهذا العميل الفرنسي أكد للإسرائيليين، معلومة التقاط حزب اللـه لمكالمات هاتفية إسرائيلية حوت بعض تفاصيل العملية، ثم كانت المفاجأة الثانية وهي أن جميع الهواتف المحمولة التابعة لنشطاء حزب اللـه كانت مغلقة، ما أكد للصهاينة أن الحزب على علم بما ينوون الإقدام عليه.
العملية إذاً ألغيت، لكن ما كان من المستحيل أن يلغى هو المعلومات التي كانت قد سربت عمدا إلى الإعلام والساسة الصهاينة حول الجهات التي تساعد إسرائيل في عملياتها، تلك المعلومات التي كشفت في اليوم التالي، والتي تدور حول تعاون وليد جنبلاط مع الموساد عن طريق المدعو هشام ناصر الدين رئيس جهازه الأمني الخاص.
جنبلاط جنّ جنونه، لكنه وبدلا من أن يرد على الصهاينة، راح من حيث يدري أو لا يدري يؤكد على تقاطعه معهم من خلال جام غضبه الذي لم يصبه هذه المرة على سلاح حزب اللـه ولا على صواريخه، وإنما على شبكة الاتصالات التي أفشلت العملية. ولم يتورع عن الظهور على الهواء مباشرة ليقدم للعدو إخباريات عن هذه الشبكة، وبصرف النظر عن مدى دقة أو صحة هذه الإخباريات فإنها كافية في أي دولة تحترم نفسها بتقديم معطيها إلى المحاكمة بتهمة الخيانة العظمى.
No comments:
Post a Comment